تفاصيل المدونة

التنوع الثقافي عصب التنمية المستدامة

التنوع هو سمة الحياة وسنتها وبدونها تعم الكون الكابة والرتابة ولا تستقيم الحياة بدونه ،وقد انتبه الإنسان لأهمية التنوع لكل أرض ،ولكل شعب ولكل بيئة مناخية وظهرت تلك التنوعات في شكل ثقافات ميزت كل مجموعة افراد على ارض واحدة عن ارض اخري تحوي مجتمع اخر . يعتبر التنوع الثقافي قوة محركة للتنمية، ليس فقط على مستوى النمو الاقتصادي بل أيضاً كوسيلة لعيش حياة فكرية وعاطفية ومعنوية وروحية أكثر اكتمالاً، وهو ما تنصّ عليه الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تنظم مجال التراث الثقافي التي تتيح ركيزة صلبة لتعزيز التنوّع الثقافي. من هنا، يُعتبر التنوع الثقافي عاملا حيويا للحدّ من الفقر وتحقيق اهداف التنمية المستدامة. يساهم القبول بالتنوّع الثقافي والاقرار به – عبر الاستعمال الابداعي للإعلام وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بشكل خاص – في خلق الحوار بين الحضارات والثقافات وفي بلوغ تبادل الاحترام والتفاهم .وهو ما تحققه وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة
وعندما ننظر الي مصطلح الثقافة نجد ان الانثربولوجيين وعلماء الاجتماع حددوا مفاهيمه وخصائصه وأنواعه ؛ فنجد انها تنقسم الى نوعين :نوع مادى وهو نتاج العمل الانساني من الصناعات والانشائات المعمارية وتصميم الملابس والاكسسوارات ، والنشر والصناعات التراثية والابداعية ، والاشياء الملموسة . والنوع الثاني هي الثقافة اللامادية ؛ وهي منظومة القيم والعادات واللغة والافكار والموسيقى والتعبيرات الحركية ،والاتجاهات الفكرية والقوانين المنظمة للحياة الاجتماعية لمجموعة من الافراد بالإضافة إلى العِرق أو السلالة .
تُبنى الثقافة وتتأثر بمجموعة من العوامل الأخرى المحيطة بنا، مثل: الجنس والطبقة الاجتماعية و القدرات البدنية والعقلية و المعتقدات الدينية والروحية علاوة على العمر والمراحل السنية المختلفة وانواع ومستوى التعليم لكل طبقة اجتماعية او مهنية والبيئة المناخية فلكل بيئة مناخية ثقافة تخصها.
ويرى مالينوفسكي أن أحسن وصف لأي ثقافة يجب أن يقوم على معرفة نظمها الاجتماعية ، ويمكن تحديدها بتسعة نظم (الأسرية – التربوية – الدينية – الأخلاقية – الجمالية – اللغوية – الاقتصادية – القانونية – السياسية ) ، وفي كل مجتمع هناك نظم اجتماعية أساسية وفرعية ، تشكل مجتمعة ما يمكن أن نسميه التكامل الثقافي ، وفقدان هذا التكامل يؤدي إلى الاضطراب والفوضى . فانتاج ثقافة الشمال يختلف تماما عن نتاج ثقافة الجنوب وكلاهما متميز وهام في اذكاء التنوع الثقافي
فلكل مجموعة من الافراد ارثها الثقافي العائلي والقومي وهذا التنوع الثقافى انشأ اشكالا مختلفة ومتعددة من المنتجات الثقافية المعبرة عن هذه المجتمعات كل على حدة وتميزها عن غيرها فظهر مصطلح الاستجابة الثقافية ". حيث يُعبّر هذا المصطلح ؛عن قدرة الفرد على تقبّل الثقافات المختلفة، واحترامها والتعلّم منها. تتطلّب هذه المهارة امتلاك درجة كبيرة ، من الانفتاح على وجهات النظر المختلفة، والأفكار وتجارب الآخرين على اعتبارها جزء من الخبرات الانسانية ، والارث الانساني في الفضاء المشترك العام
وقد تعددت النظريات الثقافية (من كتاب يحي مرسي ، أصول علم الانسان ،ص374) فنجد على سبيل المثال ؛ النظرية الايكولوجية التي تركز على العلاقة الديناميكية المتبادلة ، بين الانسان وعناصر الطبيعة المحيطة به . نجد هم يبحثون عن عمليات التكيف التي تؤدي إلى ظهور صيغ لنظريات ثقافية متباينة ، مثل(جوليان ستيوارت) و( فريدريك بارث،) وماكس جلوكمان، هذه النظرية ترى أن الناس كانوا طوال تاريخهم الطويل في صراع مستمر مع البيئة ؛ من أجل التكيف معها وحماية أنفسهم، من أخطارها من خلال اختراع العديد من الوسائل التكنولوجيا مثل المعادن واللدائن والادوات المساعدة ونمو أشكال الوقود والطاقة النووية للحفاظ على الثقافة التي طوروها.
فالإنسان في تعامله مع الطبيعة يحاول دائما أن يتكيف معها، حتى وإن كان يسعى للسيطرة عليها وتطويعها لإشباع حاجاته ، إلا أن عجز الإنسان في كثير من الأحيان يجعله يكتسب صفات بيولوجية وثقافية تمكنه من التواؤم والتوافق مع ظروف بيئته، فحتى اللغة التي تعتبر وعاء الثقافة نجدها تتأثر بالبيئة.
وتحدث ابن خلدون عن اثر البيئة في الثقافة ودورها في التنوع الثقافي والنتاج الثقافي لدى الانسان حينما يتحدث عن المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم وفي حديثه كذلك عن أثر الهواء في أخلاق البشر "ولهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه ،بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم) وتحدث هنا عن الأقاليم المعتدلة الحر و البرد(الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال وسكانها من البشر أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا " .(عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، ص90.)
وفي حديثه عن أثر الهواء في أخلاق البشر، يتحدث ابن خلدون ويعطي نوذجا باهل السودان ،كمنطقة حارة قد غلبت على قاطنيها فنجد طبيعة المرح والسرور والرقص، وايضا تفشي الحزن وتقرر أن الحرارة مفشية للهواء والبخار مخلخلة له زائدة في كميته...الخ" ولما كان السودانببن ساكنين في الإقليم الحار استولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم... " .(عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، ص95
فهذه النظرية ترى أن للواقع الإيكولوجي ، دور أساسي في صياغة وبناء الثقافة ويظهر بذلك في سماتها الثقافية وأنماط سلوكها وأنظمتها الاجتماعية وفنونها وتقاليدها ودياناتها...الخ ورغم المبالغات التي قد نجد ها عند ابن خلدون أو حتى عند الإيكو لوجيين الثقافيين ، إلا انه لا يمكن تعميم هذه الآراء بشكل جزافي كما لا يمكن إهمالها ،أو اعتبارها نظريات عنصرية ، الغرض منها تفضيل عنصر من البشر على عنصر آخر، ففعلا للظروف الطبيعية المحيطة بالإنسان سلطان قاهر لتكييف الإنسان وصياغة طباعه وأمزجته ويصبح كل منتوجه الثقافي مرتبط بتلك العوامل المحيطة به.
ان اثر التنوع الثقافي على تحقيق اهداف التنمية المستدامة ( ال17) ، من التحديات الهامة في الأجندة العالمية، بالرجوع إليها نجد انها مجموعة من الأهداف التي وضعتها الأمم المتحدة والتي تعرف أيضاً باسم الأجندة العالمية 2030، وهي رؤية ودعوة عالمية للعمل من أجل القضاء على الفقر وحماية كوكب الأرض وضمان تمتع جميع الشعوب بالسلام والازدهار بحلول عام 2030
إن التنوع أبرز ميزة للسلع والخدمات الثقافية في طبيعتها الاقتصادية والثقافية، وتستجيب هذه الخصوصية للطلبات المتزايدة التي ترمي إلى وضع سياسات أكثر تكاملاً، قادرة على معالجة الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية في آن واحد، وليست الثقافة سلعة كسائر السلع، ويعتبر هذا المبدأ مبدأً إرشادياً لوضع استراتيجيات إنمائية أكثر ابتكاراً واستدامةً، وقد أقرته على الصعيد الدولي اﻻﺗﻔﺎﻗﻴﺔ اﻟﱵ اعتمدتها اﻟﻴﻮﻧﺴﻜﻮ ﰲ عام ٢٠٠٥ ﺑﺸﺄن حماية وﺗﻌﺰﻳﺰ تنوع أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻌﺒﲑ اﻟﺜﻘﺎفي . ومن بنودها ان تنشر الجماعات والافراد انتاجهم الثقافي والابداعي والاستفادة منه والتمتع بها وحمايتها

ومن جهة اخرى أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في القرار الذي اعتمدته في كانون الأول /ديسمبر 2013 بالدور الذي تؤديه اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ بوصفها محركاً وميسراً ﻟﻠﺘﻨﻤﻴﺔ المستدامة، وقالت السيدة ايرينا:" يمثل تنوعنا الثقافي تراثاً مشتركاً للبشرية. فهو مصدر لتجدد الأفكار والمجتمعات، يتيح للمرء أن ينفتح على الآخرين وأن يبتكر أفكاراً جديدة. ويتيح هذا التنوع فرصة ثمينة لتحقيق السلام واﻟﺘﻨﻤﻴﺔ المستدامة".ويظهر تقرير اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بشأن الاقتصاد الإبداعي، أن الاقتصاد الإبداعي هو من أسرع القطاعات نمواً في العالم. فقد حققت التجارة العالمية للسلع والخدمات الإبداعية رقماً قياسياً بلغ 624 مليار دولار أمريكي في عام 2011، أي ضعفي ما كان عليه في عام 2002